بقلم: حنا مينا
هل تأكل القافية اللسان؟ وهل تفني الكلمة القلم؟ وهل الأدب في نثره وشعره، فضيلة أم رذيلة؟ وهل تبري الحروف الأصابع، أم إن الأصابع هي التي تبري الحروف؟ وهل الكتابة في اللّذة، أم إن اللّذة في الكتابة؟ ومن الذي يحفظ توازن الآخر: النفس أم فيضها الإبداعي؟ وهل ثمة فراق بين القلق وما نكتب، أم إن هناك تلازما بين القلق وهذا الذي نكتبه، وهل الكتابة مباركة أبد الدهر، أم ملعونة أبد الدهر؟
بالنسبة للجواهري، القافية هي التي أكلت لسانه كما قال، لكنه، هو أيضا، أكل القوافي، وبنهم شديد، وهذا ينطبق على الأدباء جميعا، لأنهم، في الصراع تعبيرا عن الذات، يصرعون ذواتهم بغير رحمة، يقتلونها بمدية الصبر، في البحث عن الكلمات لاصطيادها، غير أن الكلمات، حين نصطادها، نكون قد قتلناها، وبغير رحمة أيضا، ولهذا نكون، غالبا، في الأشقياء، حين يحسبنا القراء في السعداء ويحسبون أن ما ننشئ شعرا ونثرا، جاء عفو الخاطر، كما النهار، كما الليل، كما النبع في خاصرة الجبل، وكما المرجان في قاع البحر، وإن الكتابة هي الحبر يسيل على الورق، أو إنها الورق يتلقى ما يسيل عليه من الحبر، وإن ذلك كله يتم في يسر شديد، مثلما القراءة في كتاب مسل، يمتلك عنصري التشويق والإيقاع.
إنني، في هذا الذي أقوله، لست بالمثل، الذي يُضرب، ليكون كيلاً به يكال، فقد ولدت، قدراً، بالخطأ، ونشأت، مرغماً، بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً، وهذا معروف، لا غرابة فيه لمن قرأني، ولا غرابة فيه لمن قرأتهم أنا نفسي، أولئك الذين كان عليهم، كي يبلغوا ما يريدون، أن يسيروا حفاة في حقل من المسامير، فإذا بي، في غباء المطالعة الأولى، كنت أحسبهم يسيرون في حقل من الورود.
محمد مهدي الجواهري، وأنتم تعرفون من أمره ما أعرف، أكلت القافية لسانه فعلا وتناهشه القلق فعلا، وبرت الكلمات أصابعه فعلا، وكان يعاني اللذة في الألم، والألم في اللّذة، لكنه أدار ظهره، مرات كثيرة، لمغانم لو يشاء حواها، بسبب من أنه آثر اقتراف الرذيلة في الفضيلة، وآثر، أو اضطر، إلى التماس العزاء في الحزن، والى حفظ توازنه النفسي من خلال فيضه الإبداعي، وأنه مدح وهجا وكان كبيراً في المدح والهجاء معاً.
رؤيتي الأولى له كانت في أواسط الخمسينيات، حين جاء دمشق مخلفاً غاشية الخنوع وراءه، دخلت غرفته، في الفندق الذي ينزل فيه، في الظهيرة. كانت النوافذ مغلقة، والكهرباء ضعيفة، وكان يدور في الغرفة في حالة من الغضب الغضوب، وهو يتمتم بما لا أدري من الكلمات، وكان الدخان منعقداً، وأعقاب السجائر في كل مكان: في المنفضة، على حديد مشعاع التدفئة، على الأرض، وكان قد كتب على ظهر علبة سجائره، وعلى أوراق صغيرة، وعلى الجدران، وقال لي: إنه يدوّن مطلع المورد في القصيدة فقط، وبعد ذلك، في الملعب البلدي، مكان معرض دمشق الدولي الآن، ألقى قصيدته الشهيرة، في تأبين فقيد سورية العقيد عدنان المالكي، ومطلعها:
خلفت غاشية الخنوع ورائي
وأتيت أقبس جمرة الشهداء
وهذه الحال التي رأيته عليها، تكررت في الذكرى الأولى لرحيل المالكي، وكان يرتجف من غضب أيضاً، وهو يهدر:
ترنحت من شكاة بعدك الدار
وهبّ بالغضب الموّار إعصار!
ومن متابعة ما كُتب، على شكل مخطوطة لسيرة حياته، أو شذرات منها، عرفت أن هذه كانت حاله عندما ترك مجلس العزاء في أخيه جعفر، وذهب يدور في غرفة بيته المظلمة، ويمضغ حقده على الحكام العراقيين المجرمين من طغمة السعيد وجبر، في موقعة الجسر التي استشهد فيها جعفر، هذا الشاب الذي »نعله أشرف من خدّهم« وأدت إلى إلغاء معاهدة بورتثموث الشهيرة، حتى ليمكن القول: إن الجواهري تتلبسه هذه الرعدة، في كل مناسبة وطنية، سواء في تكريم عميد كلية الطب، هاشم الوتري، أو في رثاء المناضل العراقي الوطني المشهور جعفر أبو التمن أو غيره، ففي التكريم صاح بالطغاة من العراقيين:
أنا حتفهم، ألج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
وفي رثاء أبو التمن، الذي ما هادن صالح جبر ونوري السعيد واضرابهما، قال الجواهري:
قسماً بيومك والفرات الجاري
والثورة الحمراء والثوار
لا بدّ أن يثب الزمان وينثني
حكم الطغاة مقلم الأظفار
كان ذلك يوم كانت هناك ثورة حمراء، وكان ثوار حمر، وكان الزمان يثب على الأذى، فينثني حكم نوري السعيد مقلم الأظفار، ثم كان عبد الحميد كرامي، والتأبين في بيروت، والجواهري يهتز المنبر الذي يقف عليه، ورجال الأمن يحيطون بالشاعر لمنعه من متابعة الإلقاء، وهو يصرخ بحكام العراق:
باق وأعمار الطغاة قصار
من نور وجهك عاطر موار
إن هذا الهدير الجواهري، هو الجواهري روحاً وجناناً، وهو الجواهري، في شجاعة قلبه ورقته معاً، في جبهه للظلم، وغزله، شبقا حدّ الجنون، بالمرأة، وفي تحنانه على المعري، الكفيف الذي أقام الدنيا بالضجة الكبرى، وهو:
على الحصير وكوز الماء يرفده
وفكره ورفوف تحمل الكتبا
لقد مضى ألف عام على رحيل المتنبي، حين أفاءت السماء بنعماها علينا، فمنحتنا محمد مهدي الجواهري.. ترى كم من الأعوام ستمضي، حتى تفيء السماء علينا ثانية، فتمنحنا مثيلهما، أو الشبيه بهما على أقل تقدير؟ أحسب أن علينا أن ننتظر طويلاً، فدورة الابداع، ليست دورة فلك، ولن تكون، والتاريخ، إياه، لم ينته، ولن ينتهي، أبداً كما يظنون، فالتاريخ هو الشعر، وأبداً لن ينتهي الشعر، والقافية التي أكلت لسان المتنبي، هي نفسها التي أكلت لسان الجواهري، ولسان بدوي الجبل، ولسان الأخطل الصغير وشوقي وحافظ، وكل الكلاسيكيين من شعرائنا الأمجاد.
يا أبا فرات! الفرات بعدك يبكيّ!