(كي لا ننسى) مجزرة بئر العبد: ذاكرة الإرهاب الأمريكي2
تبريرات للمجزرة الأمريكية:
ومن هنا فقد علل ريغان ومسؤولو إدارته، بأن الغاية من إنشاء هذه الوحدات الهادفة إلى "قتل الإرهابيين هو القيام بعملية دفاع وقائي عن النفس أكثر مما هو عملية اغتيال"، مبررين ذلك بالقول: "إن لطم شخص ينوي قتلك ليس اغتيالاً بقدر ما هو إطلاق شرطي النار أولاً على شخص يوجه مسدسه نحوه".
وكان وزير الخارجية الأمريكي شولتس، قد حث مراراً على القيام برد قوي على "الإرهاب" الذي دعاه "بالبربرية التي تهدد الأسس العميقة للحياة المتمدنة". وقال محابياً الأعداء الصهاينة في خطاب له في جامعة يشيفا: "إن تعاليم التلمود تتضمن قوانين كونية حول الدفاع عن النفس، وتقول إذا ما حاول أحدهم قتلك أسرع إلى قتله أولاً". وأضاف أنه: "طالما وُجِد التهديد، فإن من حق ومن واجب الدول التي تحترم القانون أن تحمي نفسها".
فضل الله هدف مطلوب:
أما ماكفرلين فقد أدلى بعد أسبوعين من عملية السيارة المفخخة في بئر العبد التي استهدفت المرجع فضل الله، بتصريح ورد فيه ما بدا أنه تأكيد لوجود نوع من الفعالية المضادة للإرهاب: "إننا لا نحتاج للتأكيد على الدليل المطلق بأن الأهداف استخدمت لدعم الإرهاب".
وفي كلمة حول "الإرهاب ومستقبل المجتمع الحر" أورد ماكفرلين "المبادىء العملية" للتوجه الرئاسي بالنسبة إلى "الإرهاب"، حيث قال: "في أي وقت نحصل فيه على دليل بأن عملاً إرهابياً على وشك الحصول ضدنا، فسوف يكون أمامنا مسؤولية اتخاذ إجراءات لحماية مواطنينا وممتلكاتهم ومصالحهم". وتابع يقول: "إن استخدام القوة للدفاع عن النفس عمل مشروع في القانون الدولي. ومنصوص عليه في البند(15) من ميثاق الأمم المتحدة". (السفير14/5/1985 ـ نص تقرير الواشنطن بوست).
هذا باختصار ما كانت عليه الرؤية الأمريكية لمعنى مكافحة "الإرهاب" كما تدعي، وهي بالتالي تعكس نمط الذهنية في التعاطي مع الآخر.
محاولة الاغتيال ـ المجزرة: تواطئ عربي وحرب استباقية
لقد كشفت العديد من الوسائل الإعلامية طبيعة العلاقة حينها بين الاستخبارات الأمريكية والاستخبارات اللبنانية، وكيفية نشوئها، والأهداف التي وطدت هذه العلاقة، يقول تقرير نيويورك تايمز: "تم الاتفاق بين مسؤولي الإدارة الأمريكية لمواجهة الحالات التي تشكل خطراً على المصالح في الخارج لجهة استباق الأعمال الإرهابية وتحديد الدول التي ترعاها، ولكن لم يكن هؤلاء يخططون لاستخدام الأمريكيين في بلدان أخرى، وهذا يعني الاعتماد على أجانب يعملون في خدمة حكومات أخرى".
ضمن هذا التوجه، شكلت شخصية السيد محمد حسين فضل الله القاسم المشترك بين الاستخبارات الأمريكية والاستخبارات اللبنانية، حيث كان كِلا الجهازين يتعقبه، ولكن لأسباب مغايرة. (السفير15/5/1985).
وحاول تقرير نيويورك تايمز أن يرمي الـ"سي.آي.إيه" خارج نطاق التهمة من خلال ما جاء على لسان المسؤولين الأمريكيين، حيث يقول: إن الـ"سي.آي.إيه" لم تقرر ما الذي تريد أن تفعله بشأن السيد فضل الله، أما الاستخبارات اللبنانية، ولأسباب خاصة، لم يكن لديها القدرة على التحرك ضده، باعتبارها جهازاً رسمياً، والشيعة كانوا جزءاً من الحكومة اللبنانية، ولذلك استأجر جهاز الاستخبارات اللبناني أشخاصاً من خارج الجهاز لتنفيذ العملية. (السفير15/5/1985 ـ تقرير نيويورك تايمز).
ولإيضاح كيفية نشوء فكرة اغتيال السيد فضل الله أشارت الـ"نيوزويك" بناءً على مصادر من واشنطن: "إن الحكومة اللبنانية طلبت في عام 1984 المساعدة في تدريب قوة لمجابهة الإرهاب، وحسب مصدر قريب، فإن هذه الحكومة كانت تريد تشكيل فرقة ضاربة لمعاقبة "الإرهابيين"، وبعد نيل الموافقة من الرئيس "ريغان" ومدير الـ"سي.آي.إيه"، وليام كايسي، ووزير الخارجية شولتس، ومستشار الأمن القومي روبرت ماكفرلين، أُعطيت التعليمات للوكالة للعمل مع قسم المخابرات في الجيش اللبناني بقيادة كولونيل يُدعى سيمون قسيس.
في هذا السياق كانت الخطة تقضي بتدريب ثلاث مجموعات مكونة من خمسة عناصر لكل منها، وبحسب مصادر لبنانية، فإن مجموعتين تم تجنيدهما مكونتين من ثمانية مسيحيين ومسلِمَي٦#39;ن، وقد أخبر أعضاء لجان المخابرات في مجلس الشيوخ والنواب بذلك. (نيوزويك، أيار1985).
وهكذا تم تجنيد المخبرين والعملاء لجمع المعلومات ووضع خطة قضت بتفجير سيارة مفخخة بموكب سماحة السيد فضل الله في "موعد لا يخطئ" وهو موعد خروجه من صلاة الجمعة. لهذا تم تحضير العملية على هذا الأساس.
لحظات ما بعد خطبة الجمعة:
وفي الموعد المقرر، وبعد انتهاء السيد من إلقاء خطبة الجمعة على مجموعة من الفتيات والنساء، وفي أثناء توجهه إلى منزله كالمعتاد، ألحت إحدى السيدات عليه بأن يجيبها على بعض الأسئلة الشخصية،
وفي تلك الأثناء دوى انفجار هائل وعلت غمامة من اللهب ابتلعت عدداً كبيراً من المارة جلهم من النساء الخارجات من المسجد، بالإضافة إلى دمار كبير أصاب المنطقة، "وهكذا استحال المكان إلى جحيم من النار تلتهم كل شيء... والدماء في كل مكان ... ولكن الهدف كان أكبر من هذا ... كان المقصود "الإرهابي الكبير بنظر الاستخبارات الأمريكية".. ولكن السيد نجا بعناية الله من الانفجار، لتستمر المسيرة بعد ذلك شامخة، فلا الموت يرهبها ولا الجراح تدميها، وكيف ذلك وقائد المسيرة يقول حينها: "..إنهم يخوفوننا بالموت، ونحن الموت لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة..".
من المسؤول عن المجزرة؟!
وتركز المصادر المطلعة أن واحداً من الضباط المشاركين هو من نقلت عنه صحيفة الـ"واشنطن بوست" قوله: "إن جهازي هو من قام بعملية التفجير ضد السيد محمد حسين فضل الله في 8 آذار الماضي، وأعتقد أنه تم القيام بها لإظهار أننا أقوياء، إذ عليك أن تعمل على وقف الإرهاب بالإرهاب". (السفير15/5/1985).
وحاولت الإدارة الأمريكية التنصل مما نشرته صحيفة الواشنطن بوست، ولكن الوكالة تبنت من حيث لا تدري ـ أو ربما من حيث تدري ـ انفجار بئر العبد في 8 آذار1985 عندما وصفته بـ"عملية مضادة للإرهاب"، بدلاً من أن تصفه بأنه "عملية إرهابية"، وجاء ذلك في ظرف كان ينبغي للاستخبارات وفق ما أعلنه أحد المسؤولين في إدارة ريغان أن تمتنع عن إصدار أي تصريح، ورغم النفي المتسرع للوكالة فقد كان واضحاً تحملها المسؤولية، ما أضفى قدراً أكبر من المصداقية على تحقيق الـ"واشنطن بوست" على التصرفات التي قامت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية وجاءت مخالفة لنفيها الرسمي. (الكفاح العربي 20/5/1985).
ومن ناحية أخرى، فإن الـ"نيويورك تايمز" وصفت البيان الذي أصدرته الـ"سي.آي.إيه" ونفت فيه مسؤوليتها عن تدريب منفذي عملية التفجير في منطقة بئر العبد، بأنه بيان "لا يتجه إلى صلب الموضوع"، وتركز نفي الـ"سي.آي.إيه" على أنها لم تقم بتدريب من قاموا بعملية التفجير، في حين أن البيان لا يتضمن نفياً محدداً في أن الوكالة كانت تعمل مع الاستخبارات اللبنانية".
وتنحو في هذا الاتجاه صحيفة "مونتريال غازيت" الكندية التي ذكرت أن قول وكالة الاستخبارات "بأنها لم تكن ترغب في وقوع العملية، إنما هو مجرد تبرير لسياسة سيئة". (العالم25/5/1985).
التعاون الاستخباراتي"العربي":
"وبالفعل فقد تشكل هذا الفرع وبدأ عمله تحت عنوان "فرع العمل والتحليل الخارجي" بإدارة المقدم أدونيس نعمة المتخصص بالدراسات الاستراتيجية في الجيش اللبناني ومدير مكتب العقيد سيمون قسيس، وقد حُدِدَت٦#39; لهذا الفرع أهداف عدة كان في مقدمها اغتيال العلامة السيد محمد حسين فضل الله" (التقرير الذي نشرته التعبئة الأمنية في حزب الله).
أما عن تورط أحد فروع الاستخبارات العربية مع الاستخبارات المركزية الأمريكية في محاولة قتل السيد فضل الله في انفجار بئر العبد، فقد جاء في احدى الشهادات الأمريكية النادرة، والتي وردت في كتاب "الحجاب".. الحروب السرية للـ"سي.آي.إيه" 1981 ـ 1987، الذي كتبه مدير تحرير صحيفة الـ"واشنطن بوست" بوب ودورد.
يقول بوب وودورد في كتابه: "إن المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليم كايسي، ساعد شخصياً (جهاز استخبارات عربي) على تنفيذ ثلاث عمليات سرية، الأولى مساعدة تشاد في مواجهة ليبيا، والثانية إحباط الآمال الانتخابية للحزب الشيوعي الإيطالي في أيار عام1985، أما الثالثة فهي محاولة اغتيال السيد محمد حسين فضل الله في 8 آذار 1985 في سيارة ملغومة أسفرت عن مصرع 80 مدنياً في بئر العبد".
وقال "وودورد" في مكان آخر: "إن هذا الطرف العربي دفع مبلغ15 مليون دولار لتمويل العمليات الثلاث، ولكن بعد فشل محاولة الاغتيال حاول هذا الطرف إقناع السيد فضل الله بمباركة كايسي بوقف عمليات السيارات الانتحارية ضد الأهداف الأمريكية والغربية عن طريق مساعدة بقيمة مليوني دولار كمواد غذائية ومنح جامعية إلى أتباعه".
وكان "وودورد" نفسه قد كتب في صحيفة "واشنطن بوست" في العام 1985 إن محاولة الاغتيال كانت جزءاً من عملية الـ"سي.آي.إيه" التي تستهدف تدريب وحدات لبنانية على القيام بهجمات وقائية ضد الإرهابيين"، ولكنه أشار إلى أنه لم يعرف كما قالت الصحيفة، بدور إحدى الدول العربية التي شاركت الاستخبارات الأمريكية في عمليات عديدة في مختلف أنحاء العالم لا سيما في دعم مرتزقة "الكونترا" في نيكاراغوا ومرتزقة "اليونيتا" في أنغولا.
وفي ردٍ على سؤال حول ما نشره "وودورد" قال سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله في حديث لوكالة "يونايتدبرس" في هذا الشأن: "ليس لدي دلائل ملموسة على تورط أحد أجهزة الاستخبارات العربية، لكن أيضاً ليس لدي معلومات تنفي ذلك، لكن على قاعدة العلاقات الخاصة بين أمريكا وبعض البلدان العربية نعتقد أنه من المحتمل أن يكون بإمكان أمريكا أن تضغط على هذه الدول من أجل تمويل بعض الأعمال الإرهابية الأمريكية".
كما نفى سماحته بشدة أيضاً ما ذكره وودورد في كتابه عن أن واشنطن قدمت مساعدات بقيمة مليوني دولار إلى أنصاره مقابل وقف الهجمات الانتحارية على الأهداف الأمريكية، وتحدى "أي شبكة استخبارات أن تثبت هذه المعلومات بمعدل 1 في المائة". (السفير30/9/1987).