بيروت (رويترز) - مجموعة الشاعرة والاكاديمية العراقية بشرى البستاني المسماة "اندلسيات لجروح العراق" تحفل بهدير وخطابية منبرية وندب تاريخي طويل مؤثر لانه يتحدث كالبركان عن فواجع العراق.
ومجموعة بشرى البستاني اذا اردنا الصدق مع النفس تثير مسألة شديدة الخطورة عند من يدافعون عن ارضهم ووطنهم وهي اللجوء الى اثارة موضوع الاندلس والبكاء على ما يسمونه فردوسا مفقودا.
وعلى رغم تلك المنبرية الخطابية والهدير الذي يكاد لا يعرف نهاية فلدى بشرى البستاني قدرة على الامتاع والتأثير احيانا مع الاستمرار في هذا الندب الهادر الطويل.
غير ان في الندب -الا قليله النادر الذي يتحول الى شعر يكاد يكون "مهموسا" على حد تعبير الناقد الكبير الراحل محمد مندور- صنعة ومهارة اكثر مما فيه من حرارة التجربة الشعورية وقدرتها الايحائية. ذلك لا يعني انه ليس في شعر بشرى البستاني ما يوحي ويؤثر.
ولديها مقدرة بلاغية ثرية على صياغة مسارح تتحرك فيها المجازات والرموز متشابكة بكلام شديد الواقعية فضلا عن "ترتيب" ونقاش منطقيين. لكن ربما كانت تلك المنبرية وذلك الهدير المستمر بعض ما قد يؤخذ على نتاجها لانه نادرا ما يخلي المجال للعاطفة الحارة اللافحة وهي غالبا ما تتحرك بهدوء النسمات وان تفجرت تفجرا في بعض الاحايين.
مجموعة الاستاذة الجامعية والشاعرة التي لها ثمانية دواوين اخرى سابقة جاءت في 128 صفحة متوسطة القطع وبلوحة غلاف لمحمد احسائي من ايران وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
اما موضوع الفردوس المفقود فهو اللجوء الى استحضار موضوع الاندلس وذلك على رغم ما حققه العرب فيها من انجازات حضارية. اذكر مرة ان كاتب هذه السطور خلال ندوة في الجامعة الامريكية في بيروت عن الشاعر الكبير الراحل محمود درويش لم يستطع ان يكتم استغرابه ان يبكي الشاعر الفلسطيني المشرد المناضل على الاندلس ويربط محنتها بمأساة فلسطين. بدا له من المنطقي والصدق والانسجام مع النفس الا يتعاطف العربي مع محتل الارض ولو كان عربيا وألا ينصر اخاه ظالما بل ان يتعاطف مع صاحب الحق والارض اي مع الاسباني الذي "طردنا" من ارضه بحق وأن يتمنى ان يحذو حذوه ويحرر ارضه كما فعل الاسباني.
واذا لم نفعل ذلك فاننا نكون قد قلنا بطريقة ما ان الاسرائيلي الذي يحتل فلسطين محق في ما فعله بحجة انه كان فيها لمدة من الزمن وانه محق في بكائه على ما يزعم انه ارضه وفي قوله الشهير "فلتنسني يميني ان نسيتك يا اورشليم."
ان بكاءنا على الاندلس بينما دموعنا تنهمر بحق على العراق الجريح والربط بين تلك الحالة الاندلسية وهذه المأساة الحاضرة لامر ليس عصيا على الفهم فحسب لكن فيه ما قد يحسب مناقضا لقضايانا الوطنية اذ ليس ثمة احتلال محق هناك واحتلال باطل هنا.انها ازدواجية في المفاهيم.
وعلى رغم ان المجال ليس مجال طرف واضحاك فهذا الموقف يذكرنا بطرفة مبكية وهي ان "لبنانيا" والبعض يقول ان "عربيا" سئل ما هو مجموع "اثنين" مع اثنين ففكر لحظة ورد بسؤال هو "هل الامر قبض ام دفع؟"
القصيدة الاولى في المجموعة حملت عنوانا هو "اندلسيات لجروح العراق" اي عنوان المجموعة الشعرية ذاته. انها قصيدة طويلة جاءت في 30 صفحة من صفحات المجموعة. تقوم القصيدة على تراكم وتكاد تفتقد كليا الى اي نمو عضوي. هدير وندب يتناولان التاريخ والحاضر والجغرافيا والناس والقصص الديني والشعبي وأمورا اخرى كثيرة. ولعل في هذا التراكم وفي تقريرية كثيرا ما تواجهنا ما يظلم الشاعرة ذات القدرات التي لا تنكر ويظلم سمات جمال انتشرت هنا وهناك في القصيدة لكنها "اختفت او كادت في الزحام" كما يقال.
بدأت الشاعرة قصيدتها بالقول "دبابات الغزو تدور/ تسائلني الاسلحة العزلاء عن السر/ وأسألها عن نبض الفجر/ وأجثو عند خزائن بغداد اشور/ امسك قلبي من وجع التفاح/ عناقيد النخل على الاعواد/ الكابوس يعاودني اشهق في قاع الجب/ وأبحث عن سيارة اهلي/ اسأل غصنين ينامان/ على صدري/ عن سر الجبل الصامت في قلب الصحراء/ ارقى درجات الوجد/ مغمضة العينين/ وأمسك برق البلور."
وتضيف "دبابات القتل تدور../ بغداد/ سمرقند/ غرناطة تنهد/ ثانية يوغل هولاكو في قمصان المدن التعبى/ هولاكو يترصدني../ يقطع رأسي/ يودعه في صندوق مقفل/ يرميه في البحر/ يدور البحر/ اللعبة ترتد على نحر البارجة الامريكية..."
على امتداد القصيدة يتكرر ما لا يقل عن 28 مرة القول "دبابات الغزو تدور" او دبابات الحقد تدور او دبابات السلب تدور او دبابات الموت تدور وغيرها. والواقع انه ليس على الشاعرة ان تقدم "جردة حساب" بهذا الطول عن دوران هذه الدبابات. ان ذلك نادرا ما اضاف قيمة جمالية الى القصيدة او دفعها الى شيء من النمو بل بدا "تكويما" قد يحدث نوعا من الملل احيانا اذا لم ترافقه قيمة جمالية تبرره.
نعود لنقرأ معها "دبابات الحقد تدور../ غرناطة تعدو في قمصان الليل/ يلاحقها الذئب التتري/ تصل البصرة/ يوقفها الامريكي على السلك الشائك/ تزحف في ذي قار/ بين جذور النخل الممتدة من اوتار الحزن/ بسومر/ حتى قلب النار..."
وتدور هذه الدبابات بوحشية ساحقة وتستحضر الشاعرة معها شخصيات من التاريخ من الرسول الى شخصيات عربية ادبية منها ابو تمام والسيف الاصدق انباء من الكتب فنقرأ "دبابات الغزو تدور/ ابو تمام ينشر بائيته فوق ضفاف/ الكرخ الدبابات..." الى ان نصل الى الشاعر الحديث بدر شاكر السياب وقصيدته "انشودة المطر" الشهيرة لكن الاشارة اليها لم تكن موفقة بل بدت شيئا من "الترقيع" اذ تقول الشاعرة " السياب../يعزف اغنية الامطار وأب../ مندهش من رمل يتأمل احذية الجند الامريكية..."
كثير هو عدد القصائد الطويلة. اما القصائد القصيرة فيبدو عدد منها اكثر من الاولى تشبعا بتجارب الشاعرة الحارة وتأثيرا في النفس وقد نلتقي في بعضها "الشاعرة" دون منبر ولا هدير.
فلنقرأ مثلا من قصيدة جميلة هي قصيدة "جروح الارض" حيث تقول بشرى البستاني "حول مائدة الحب كنا غريبين/ ما بيننا قهوة مرة/ وعذول/ يحدق كل بصاحبه../ اهو هذا؟/ اصابع باردة ( ليلة شاحبة) والرياح تجيء بناي غريق/ ومختنق صوت اخر سرب اليمام/ تداري الغصون انطفاءاتها/ وتخاتل اجفانها نجمة خائفة/ على دمعة واجفة../ وتكسر ارجوحة ساعديها/ وتسقط فوق الحصى ميتة/ غريبين كنا/ على شاطيء الكون منفردين/ وما بيننا الجرح ينزف/ ما بيننا مطر بارد/ ماتت الاسئلة ..."
ترى أيؤدي رحيل الهدير والدوي احيانا الى ان يتجرأ الشعر فيطل برأسه بعد ان اجبرته الضوضاء على اللجوء الى اعماق النفس ثم جعله شيء من السكون يخرج الى السطح.
الثلاثاء نوفمبر 09, 2021 8:20 am من طرف طارق العيداوي
