ميليشيات السلطة تسطو على أعرق صرح أكاديمي عراقي
)قضية «الجامعة المستنصريّة» هي جزء من انهيار كل شيء في العراق المحتل: التعليم والقانون والدولة والأخلاق. هي جزء من الوضع العام الذي أوجده الاحتلال، بصراعاته ونزاعاته الطائفية والفئوية. وشكّلت «المستنصرية» نموذجاً لأسوأ ما شهدته بلاد الرافدين من تهجير وتطهير طائفي وتصفيات وعمليات قتل واسعة شملت الطلبة والأساتذة والموظفين. منذ عام 2004، كانت الجامعة التي تُعدّ من بين الأشهر في البلاد، وكراً للمافيات والعصابات المحسوبة على حكام بغداد. ساد الصمت عما يجري في صفوفها ومكاتبها وملاعبها، إلى أن انفجرت الأوضاع قبل أسبوعين حين أقفل الصرح الأكاديمي، ليعاد فتح أبوابه أول من أمس. هذا ما يُقال عن «المستنصريّة»
بدأت القصة كلّها غداة الاحتلال، حين شهد العراق محاولات لاستعادة ما بقي من الحياة في مؤسّساته. فتحت الجامعة المستنصرية أبوابها في عهد حكومة أياد علاوي، وأراد رئيسها حينها، الدكتور طاهر خلف البكاء، عضو «القائمة العراقية الوطنية»، إثبات ولائه الديني، بعد اتهامه بالانتماء إلى حزب «البعث» المنحل. عمد الرجل إلى تحويل الحرم الجامعي إلى «جامع» لطائفة معينة، تمارس فيه طقوسها على مدار السنة. إلا أن كل ذلك لم يشفع له، فتمّ استبداله بالقيادي في «المجلس الأعلى الإسلامي» الدكتور تقي الموسوي، الذي حوّل الجامعة إلى «معهد ديني». كما شهدت ولايته أعنف موجات من التطهير والعنف، إضافة إلى الفساد الإداري، وفقدان الأساتذة لهيبتهم أمام الطلبة المنتسبين إلى الميليشيات.
استمرّت الأحوال على حالها، وظلت أحزاب السلطة وميليشياتها الحاكمة تحكم قبضتها على «المستنصرية». قُتل من قُتل من طلابها وكادرها التعليمي، إلى أن قرر أحد الأساتذة فيها، عبد الله البياتي (63 عاماً) عدم السكوت على الاعتداء الذي تعرّض له على أيدي طلاب ميليشيويين قيل إنهم ينتمون إلى حزب رئيس الوزراء نوري المالكي «الدعوة الإسلامية». اعتداء «بكعب مسدس» استهدف البياتي داخل الحرم الجامعي، بعدما تحدثت زوجته، وهي زميلته في الجامعة، عن قضايا فساد مالي ـــــ إداري يقوم بها طلاب في الاتحاد الطلابي.
عمد رئيس الحكومة، الذي ذهب إليه البياتي يشكو الحال، بثيابه المغطاة بالدماء، بقرار شخصي، إلى إقفال الجامعة وحلّ كل الاتحادات الطلابية. وبعد أسبوع واحد، استؤنفت الدراسة. وقال أحد رؤساء الجامعة، فلاح الأسدي، إن 6 روابط واتحادات طلابية أغلقت تنفيذاً لأوامر رئيس الوزراء، «ما ولّد ارتياحاً لدى الجميع»، منوّهاً بأن هذه الروابط «كانت تتدخل في العمل الإداري، وفي عمل لجان الامتحانات في الكليات، وكانت هناك شكاوى مستمرة من تدخل هؤلاء بطريقة غير شرعية».
وأوضح الأسدي أنه «بعد إغلاق الجامعة، أصبح الجو أكثر استقراراً»، مشيراً إلى أن «الدراسة لم تتوقف أصلاً في الكليات التابعة للجامعة في جانب الكرخ، ولا في باب المعظم، وخصوصاً الكليات الطبية التي تقع داخل المستشفيات».
إلا أن المسؤولة في الجامعة، بلقيس كولي، رفضت تنفيذ أمر إلقاء القبض الذي صدر بحق بعض الطلبة، بحجة أن الجامعات مستقلة، وعلى الحكومة عدم تسييسها، واصفة تدخل القوات الأمنية في شؤون الجامعة بـ«المضر». وبذلك، خالفت كولي رأي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، عبد ذياب العجيلي، الذي طمأن إلى أن الوزارة «ستعاقب كل من يسيء إلى قدسية العلم وينتهك الحرم الجامعي».
تجدر الإشارة إلى أن مشكلات الجامعة المستنصرية أخذت تتفاقم بعد عزل رئيسها تقي الموسوي في 25 آذار الماضي، على خلفية مشكلات كثيرة اعترت الجامعة وإضرابات نفّذها الطلبة للضغط في سبيل عزل الموسوي، ما استدعى تدخل الوزارة وإقالته، وتعيين الدكتور فلاح الأسدي بديلاً. إلا أن الموسوي رفض تنفيذ الأمر، وبقي يمارس عمله في مكتبه الجامعي، بينما اتخذ الأسدي مقراً له داخل الوزارة. وما زاد من تعقيد الموقف، تدخّل المالكي الذي لم يحلّ الإشكال بين رئيسي الجامعة، بل عمد إلى تعيين كاظم الجابري رئيساً ثالثاً لها.