إن
القرآن يقدم لنا المرأة في صورة ملكة سبأ كإنسان تملك عقلها ولا تخضع
لعاطفتها، لأن مسؤولتيها استطاعت إنضاج تجربتها وتقوية عقلها، حتى أصبحت
في مستوى أن تحكم الرجال الذين رأوا فيها الشخصية القوية العاقلة القادرة
على إدارة شؤونهم العامة.
وإذا أردنا استنطاق هذه الصورة، فإنها
تدلّ على إمكانية انتصار المرأة على عوامل الضعف الأنثوي الذي قد يؤثّر
تأثيراً سلبياً على طريقتها في التفكير أو في إدارة المواقف، ما يوحي بأن
الضعف ليس قدرها الذي لا تستطيع التخلص منه.
وهكذا كانت نهاية
المطاف أن دخلت في الإسلام مع سليمان، بعد أن اقتنعت بذلك من خلال المعجزة
التي نقلت عرشها إلى موقع سليمان، أو من خلال الحوار الذي دار بينها وبين
سليمان، ما يضيف دليلاً جديداً إلى الفكرة في صورة المرأة التي تقرر
وتلتزم وتنتمي من خلال الفكر الخاضع للحسابات الدقيقة التي قد لا يملكها
الكثيرون من الرجال.
المرأة كمثال للقوة
وقبل أن ننطلق
بعيداً عن استعراض النماذج، لا بد من التوقف عند شخصية امرأة فرعون التي
كانت تعيش في القمة من الجاه والنعيم، ولكنها تمردت على ذلك كله، لأنها لم
تنفتح ـ من خلال إيمانها ـ على هذه الحياة المستكبرة اللاهية الطاغية التي
تعيش الإثارة والأنانية والطغيان فيما تتلهى به من آلام المستضعفين وجوع
الجائعين، وفيما تعيشه من تمرّد على الله وبعد عن مواقع الخير في حياة
الناس. كانت تحب أن تعيش إيمانها في إنسانيتها، ولكنها لم تكن تجد أيّ
فرصة للقيام بذلك، لأنّ زوجها كان يملأ الحياة من حولها بكل ما هو غير
إنساني، في اضطهاده للمستضعفين هناك.
وهكذا انطلقت صرختها إلى الله
لتعبر عن رفضها الروحي والعقلي لكل ما حولها، ولتطلب من الله أن يقوّيها
في موقفها العمليّ، ليكون التحدي في موقعها أكبر، ليبني لها بيتاً في
الجنة تتطلع إليه في أحلامها الإيمانية كلما زحفت إلى مشاعرها نقاط الضعف
التي قد تعمل على أن تزلزل مواقعها ومواقفها، ولينجّيها من فرعون وعمله،
لأنها لا تطيق شخصيته المشوّهة وعمله الاستكباري، ولينجيّها من القوم
الظالمين الذين يحيطون به، ويتزلّفون إليه، ويدعمون ظلمه، ويتحركون في
ساحته، ليكونوا الظالمين الصغار في خدمة الظالم الكبير.
وهكذا غدت
القدوة والمثل للمؤمنين والمؤمنات، والنموذج الأمثل للقوة الإيمانية
الإنسانية المتمردة على سلطان الظلم بكل إغراءاته وملذاته، كما ضرب الله
مريم ـ من بعدها ـ لهم مثلاً في الصفة الأخلاقية في مستوى القمة، والنموذج
الأمثل في التصديق بكلمات ربها وكتبه، وفي القنوت الخاشع لله في حياتها
كلها، حتى كانت حياتها صلاةً كلها. وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وضرب
الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في
الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين* ومريم ابنة عمران
التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من
القانتين} (التحريم:11-12).
ونحن نعرف أن اعتبار المرأة المؤمنة
القوية قدوةً ومثلاً حياً للرجال والنساء من المؤمنين والمؤمنات، يدلّ
دلالة واضحة على أن القرآن يعترف للمرأة بقدرتها على أن تكون الإنسان
القوي الذي يستعلي على كل مواقع السقوط، ويتمرد على كل نوازع الضعف، ما
يدل على أن المرأة في نموذجها الأمثل، يمكن أن تكون المثال للرجل كما هي
المثال للمرأة، من موقع الإنسانية المشتركة التي تستطيع أن تندفع في
عطائها الإنساني الأخلاقي في الموقف، بالمستوى الذي تُلغى فيه فوارق الجنس
أمام وحدة العقل، والإرادة، والحركة والموقف.
وإذا كنا نتحدث عن
بعض النماذج القرآنية، أو بعض الأسماء التاريخية الإسلامية التي تمثل
البطولات الكبيرة للمرأة، فإننا سنلاحظ في قراءتنا للتاريخ، النسوة اللاتي
جسّدن التفوق في مجتمعهن فيما يملكنه من قدراتٍ ومواهب ومواقف، تؤكد
القدرة الإنسانية للمرأة على أن تتجاوز نقاط ضعفها لتحوّلها إلى نقاط قوة
لتبلغ بها المستوى الرفيع.
وفي العصور المتأخرة، وفي العصر الحاضر،
نجد التجربة الإنسانية في العلم والثقافة والحركة السياسية والاجتماعية
تقدم لنا الكثير من النساء اللاتي استطعن أن يؤكدن وجودهن وتجربتهن
الرائدة المعبرة عن مواقع القوة الإنسانية الدالة على قدرة المرأة على
التحدي والثبات والإبداع في مختلف المجالات العامة والخاصة، ما يوحي بوجود
نوعٍ من التوازن في القدرات الإنسانية في الظروف المشتركة بين الرجل
والمرأة.
هذه صورة عن الواقع الحيّ الذي يعيشه الرجل والمرأة في
الواقع الإنساني الذي يوحي بأن اختلاف الجنس في الطبيعة الإنسانية، لا
يمنع الاتفاق على الوحدة في القوة الفكرية والإرادة الصلبة والمرونة
العملية لدى الرجال والنساء، مع توفّر ظروف القوة