1- ان يكون رعيل الخطباء قسما من الحوزة لا قسيما
لها، بمعنى ان يسير على ما يسير عليه طلاب الحوزة من خطواتفي المنهج
والمضمون، وفي سلوكه وهديه والتزامه باجواء الحوزة. واذا قدر له ان يتصف
بذلك، فستحصل له اموراهمها: الثقة بنفسه وانه بمستوى اداء الرسالة علميا
وستتغير النظرة اليه عند الجمهور، من كونه مجرد ذاكر يمارسموضوعا يتصل
بالعواطف عند محبي آل البيت (ع) الى كونه من اهل العلم الذين يقومون بما
يقوم به ممثلو العلماء فيالبلدان. غاية ما في الامر ان الممثلين ثابتون
في مكان محدد وهؤلاء متجولون، وبذلك سيكون الخطباء مشمولين بكلما للحوزة
من حقوق ورعاية وغطاء مادي من الحقوق الشرعية حتى لا يتعرضوا للضياع في
ايام العجز والشيخوخة، الىغير ذلك من مكاسب.
- يتعين على
الخطيب، اضافة الى ترس مه المنهج الحوزوي، ان يحقق اتقان الاليات ذات
العلاقة بفن الخطابةالحسينية، لان ذلك من اول شروط المنبر الناجح، على ان
تكون هذه الامور مسايرة للتطور اداء ومضمونا، ومنسجمةمع ضوابطنا الشرعية
والاخلاقية، وحاملة لسمات عقيدتنا في خطوطها العامة، ومتصفة بالبعد عن
المبالغاتوالتهويلات، الامر الذي يجعلها مستساغة، وبالاختصار ان تكون وفق
المواصفات السليمة.
ان هذه الاليات المذكورة هي العنصر الفاعل في
جذب الجمهور الى المنبر، ومن ثم مخاطبته وفق المستويات التييخضع لها، من
حيث الزمان والمكان والهوية وغير ذلك مما يحدد آفاق المستمعين. وينبغي الا
يحرص الخطيب علىمجرد ارضاء المستمعين بالنزول الى مستواهم وما يتوقون
اليه، خصوصا اذا كان يؤدي الى الهبوط بمستوياتهم، لا بد منمحاولة
الارتقاء بهم تدريجا وبهدوء. ان بعض تلك الممارسات حتى لو كانت سائغة
شرعا، لكنها اذا كانت تودي الى مايهبط بجمهورنا، ينبغي الابتعاد عنها، ان
عملية الانتقاء هنا ضرورية ينبغي ان ترضي مزاجنا الديني، وان كانت لا
ترضيالخطيب او الجمهور، ذلك ان الخطيب حامل رسالة، والرسالة تبني وان
كانت عملية البناء متعبة تكلف جهداومعاناة.
3- انطلاقا من ذلك اصبح
لا بد من عملية انتقاء لمن يمارس الخطابة، بمعنى انه ينبغي الا يكون الباب
مفتوحا امام منيريد سلوك هذا الطريق ما لم يحمل المؤهلات، ولو بالحد
الادنى، وليس من المحتم دخوله هذا السلك، بل يمكنتيسير السبيل امامه الى
اداء رسالة عن طريق الحوزة التي لا ضرورة فيها للشروط المطلوبة من الخطيب
مما سنشير اليه.اننا بذلك نحقق للمنبر ما هو ضروري له ولطالب اداء الرسالة
ما يحفظ له مكانته ولا يعرضه للضياع لفقدان الشروطالمنبرية المفروض ان
تتوافر لديه. كما نرى كثيرا ممن يمارس الخطابة ولا تتوافر له الظروف
المطلوبة، فيكون عرضةللضياع واهدار عمره في ما لا يعود عليه بالمطلوب.
ولعل ابرز ما قد يحتاجه الخطيب هو:
ا- حسن المظهر ووجاهته في حدود معقولة، وينبغي الا يتصف الخطيب بما يغاير ذلك.
ب-
ان يكون ممن رزقه اللّه تعالى صوتا جيدا مرنا وقابلا للتكيف مع الحالات
المطلوبة في الاداء، لان حاجته لذلكشديدة، بحكم كون الصوت الجيد عامل جذب
مهما للجمهور.
ج- ان يكون ذا حافظة سليمة لخزن المعلومات وليس من المبتلين بعكس ذلك.
د- ان تكون عنده موهبة حسن الاختيار، سواء كانت ذاتية ام مكتسبة، مع قدرة على التحرك بهذه الموهبة في المواقفالمطلوبة.
ه- كونه من ذوي السمعة الحسنة، ومن دون ذلك يفقد التاثير ولا يعتنى بقوله.
و-
ان يكون قد اجتاز مدة من التدريب والتلمذة تحقق له النضج في الخطابة
والتحلي بخواص المنبر التي يكتسبها منمجموعة، وليس من واحد، لانها قد لا
تكون مجموعة عند واحد فياخذ من كل منهم ما هو متميز به.
هذا اقل ما
ينبغي ان يكون عند الخطيب، ليكون مؤهلا للقبول في ما يمارسه من عمل المنبر
وحتى نكون قد اخترناللمنبر من هو مؤهل ومهيا لاداء هذه الرسالة، والا فليس
من الصحيح ان نضعه في غير مكانه فنسيء له من ناحيةولرسالته من ناحية
اخرى.
كيفية تجسيد الرؤية هذه هي ابرز الامور التي بقيت في ذاكرتي
مما دار حوله الحديث مع السيد الصدر (قدس سره). بقي ان اذكر ما تمالتداول
حوله في كيفية تجسيد ما انتهينا اليه نظريا، وان كانت هذه مسالة تحتاج
لجهد، ولكنها غير متعذرة، ولقد استقرالراي على الخطوات الاتية:
1-
ان يتم العمل لذلك بهدوء، ومن دون واجهات بارزة، وانما بعمل بسيط وفي
خطوات حذرة، ومن دون استفزازللاخرين، مع التبين بعد كل خطوة في مدى صوابها
قبل البدء بالخطوة الثانية، وذلك تحاشيا لمضاعفات. وهذه الاموراستفدتها
قبل ذلك من تجربة «جمعية منتدى النشر العلمية» في النجف الاشرف عند البدء
بتاسيس معهد الخطابة الذيانتهى الى الاخفاق، فلا ينبغي ان تتكرر تلك
التجربة ما دام معظم العوامل لا يزال قائما بالفعل.
2- ان يتم اختيار
مجموعة، من المامولين، يتراوح عددها بين الخمسة والعشرة اشخاص تكون خميرة
التجربةوالانموذج الممثل لما يراد الحصول عليه من المنبر ليطرح في
الساحة، واذا قدر له النجاح فسيخدم فكرة ايجاد مؤسسةللخطابة.
3- لا بد
من تحضير الوسائل اللازمة من مفردات المنهجين الحوزوي والخطابي في حدود
القدرات المتاحة حتى يبداالعمل فورا، ونكسب بذلك الوقت لئلا يبرد الحماس
حول الموضوع.
4- مما يكلف به هؤلاء الطلاب، وفي اثناء الدراسة، تاليف
مواضيع خطابية متنوعة ويسايرهم الاستاذ في خطواتهمحول ذلك، ثم يكلفون
بقراءتها في مجلس يتم فيه حضور زملائهم، ويتم تبادل الاراء حول تلك
المواضيع، ويستفاد منملاحظات الحضور، ويكون ذلك تدريبا ميدانيا يعمل على
تاهيل الخطيب وتوفير التسديد له مما قد يتعرض له من تعثرفي طريقه.
5- يفترض وجود حد
ادنى لا بد من ان يصل اليه الخطيب قبل ترشيحه لممارسة رسالته، ويترك
الباقي لما يحمله هومن كفاءة وقابلية في ساحة المنبر.
6 -في اثناء ذلك،
يتم ترويض اذهان الجمهور لقبوله عن طريق التنويه به والاشادة بمؤهلاته
واعلان اجتيازه للامتحان،فيما اذا اجتازه بنجاح، ويتم هذا التنويه به في
الداخل والخارج بوساطة المعنيين بهذه الشؤون في كل بلدة تحتاج الىخطيب في
ذكرى الحسين (ع).
7- اذا تم له اجتياز العقبات ينصرف الى العمل، والا
لا بد من العمل على توجيهه لساحة اخرى كما اسلفنا، حيث تتعددساحات الحوزة
من تخصص او كتابة او تدريس وهكذا.
8- ليس من الضروري ان تكون فعاليات
الدراسة هذه في محل معين خاص، بل تتم على نمط الدراسة الحوزوية الحرةفي
مسجد او بيت او مؤسسة، الى ان يتاح لنا الوصول بعد ذلك الى مدرسة متخصصة.
9-
في ما يخص المنهجين المذكورين من الدراسة الحوزوية، والدراسة الخطابية فقد
تكفل السيد (قدس سره) بالمنهجالاول عن طريق توفير المدرسين والكتب. اما
المنهج الثاني فقد اتفقنا على ان اقوم انا، مع اثنين من زملائي
اللذيناختارهما، بتهيئة المنهج الثاني. نقوم بذلك معا ونضع ما نملكه من
خبرة بين يدي الشريحة المذكورة من الطلاب.
تلك هي الخطوط العامة
لفكرة النهوض بالمنبر وخدمة خطباء المنبر، ليكونوا منافذ الى المعارف
الاسلامية ومياديناهل البيت، وليحققوا التلاحم بين الامة وقادتها
الروحيين، كما هو الحال عند بعض الشعوب الاسلامية التي يقودهاالفكر
الاسلامي بوساطة المبلغين ودورهم المهم في الثقافة الاسلامية العامة.
الروح
الموسوعية عند السيد الشهيد بعد ذلك، لا تفوتني الاشارة الى امر مهم، الا
وهو هذه الروح الموسوعية عند الشهيد الصدر التي لم تشغلها مشاكلتاسيس
حوزة علمية رائدة، ولا اعباء مرجعية بدات واخذت تنمو وتتسع، ولا المواجهة
مع تيارات وافدة ونظم عاتيةفتحت عينيها واخذت تتحسس الخطر من فكر مسلم
ياخذ طريقه للانتشار، ويعمل على غير المالوف والتقليدي فيالمناهج، ما
وقفت عند ذلك بل امتدت لتحمل هموم المنبر بوصفه جزءا مهما من الجانب
الاسلامي الاعلامي.
لقد كان يلح للبدء بالعمل في اقرب وقت، وكانه
يحس احساسا داخليا بقلة مكثه في هذه الحياة، وان ضمن ذلك ببقاءفكره حيا.
وعندما اتفقنا على مهلة قصيرة لاعداد المقدمات لذلك كان يوصي بتقصير المدة
والمسارعة لذلك. وبداتبالتوجه لذلك والاستفادة من تجارب المنبر في بلدان
اخرى واستعراض السلبيات والايجابيات المتصورة. وحدثاثناء ذلك ما يوجب
خروجي من العراق لبعض الامور الى سورية بامل العودة قريبا، وتصاعدت
الاحداث واعتقلالسيد ولم يخرج من المعتقل الا الى مثواه الاخير في جدث ضم
جسده، وبقيت روحه تتحدى الفناء وتسرحافكارامضيئة في دروب السائرين
للاصلاح، وطويت تلك الامال وان لم تمت.
الامل بمرجعياتنا ولنا امل
كبير بمرجعياتنا العتيدة، سدد اللّه خطاها، في ان يكون المنبر من همومها
ومن بعض ما تعمل على انجازه منمهمات، ولا احسبها غافلة عما للمنبر من
مكانة مهمة. وما من جهة هناك غير المرجعية متعينة للقيام بهذا العمل،
وذلكلاسباب كثيرة استعرضتها في كتابي: «تجاربي مع المنبر». وانا عندما
اقترح ذلك لا اريد ان اعلم المرجعية تكليفها، وهيان شاء اللّه ممن لا
يقصر في عمل كل ما يخدم الدين والعقيدة، ولكنني في قلب الساحة واعيش اجواء
المنبر وادركمدى تاثيره على القاعدة العريضة من الناس، ولا ينبغي لمثل
هذه الوسيلة المهمة ان تهمل. ولعلنا نسال عنها بين يدياللّه تعالى يوم
نلقاه باعتباره مما يقرب للطاعة ويبعد عن المعصية، وذلك من صميم ما يتعين
على الائمة القيام به.
فروض الوفاء للريادة الملهمة وفي ختام هذه
الالمامة البسيطة بموضوع هموم المنبر عند الشهيد الصدر، لا بد من الاشارة
الى ان هذه المسالة ليستالفكرة الرائدة الوحيدة في النهوض بالمنبر، فلقد
كانت الريادة في مجمل افكاره التي كانت رائدة في البعد الاجتماعي،والبعد
الاقتصادي، والبعد الاخلاقي، والبعد التاريخي الخ...، ولا تعوزنا البرهنة
على ذلك فهي قائمة في ما ترك منكتب قيمة غطت هذه الابعاد.
اما ما كان يطرقه في احاديثه ومداولاته فهو مما لا يقل اهمية عما كتبه، يعرف ذلك كل من اتيح له ان يعايشه ويستمعلاحاديثه.
بقي
ان اقول: ان في ذمتنا نحن الذين عاصرناه وتفاعلنا مع افكاره امانة، وهي ان
ننقل الصورة المشرقة التي رسمها فياذهاننا معايشة وفكرا، ننقلها لمن لم
يره ولم يعايشه، وهم ايضا بدورهم يتعين عليهم ذلك ليبقى الصدر شعلة
متوهجةفي الافكار. ان ذلك اقل فروض الوفاء للريادة الملهمة.
رحم
اللّه الشهيد محمد باقر الصدر برحمته الواسعة، وجزاه بقدر ما اتسع له قلبه
الكبير من هموم، وبقدر ما حمله فكرهمن عطاء وكرم، وما لم يبتعد في مسيرته
عن خطوط دماء الانبياء وابناء الانبياء. والحمد للّه اولا واخيرا.