ارتحل العلاّمة الطباطبائي إلى قم في عام 1364هـ "1945م"، وكانت الحوزة العلمية فيها آنذاك، تشهد بدايات نهضة تصدى لها آية الله العظمى السيد حسين البروجردي، وكانت هذه النهضة بحاجة إلى من يرفدها، ولأجل ذلك، اكتسى حضور العلامة الطباطبائي إلى قم أهمية خاصة في تبلور تلك النهضة الفكرية القوية التي شهدتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وإشعال جذوتها، وهذا ما عبّر عنه بقوله: "عندما قدمت إلى قم، أمعنت النظر وتفحصت الواقع بحثاً عمّا تحتاجه الحوزة في ذلك الوقت، فوجدت أنه أهم ما ينقص الحوزة وبرامجها الدراسية تفسير القرآن والبحوث العقلية، ولهذا باشرت بتدريس التفسير والفلسفة، مع أن تفسير القرآن لم يكن بنظر البعض علماً يحتاج إلى تحقيق وتأمل، بل وغير لائق بمكان له الانشغال به عن الفقه والأصول، حتى إن البعض كان يعتبر تدريس التفسير والانشغال به دليلاً وعلامة على قلة المعلومات. على أي حال، لم أتخذ ذلك ذريعة أو مبرراً مقبولاً أمام الله تعالى لأن أتنازل عن مشاريعي، بل على العكس، واصلت الطريق حتى تمخض عنه تفسير الميزان".
ولم تكن الفلسفة أحسن حالاً من التفسير، ولئن كان التفسير درساً قليل المنـزلة في عُرف البعض، فإن الفلسفة كانت تواجه العقبات، وما إن باشر السيد الطباطبائي بتدريس الفلسفة وجعل مادة درسه كتاب الأسفار، انطلاقاً من تشخيصه لمسؤولياته والدور الذي ينبغي القيام به في مواجهة النـزعات المادية التي غدت تغزو المسلمين، والفلسفات الغربية التي انبهر بها أبناؤهم، حتى برزت جهود تحاول إيقافه، حيث أوغر البعض صدر آية الله البروجردي، وأخذوا يقربون إليه فكرة تعطيل هذا الدرس المهم الذي كان يحضره مئة طالب، وفجأة أُبلغ السيد الطباطبائي بخبر قرار قطع رواتب الطلبة الذين يحضرون عنده، وهنا أخذت الحيرة منه مأخذاً كبيراً، بين الاستمرار في الدرس وما يترتب على ذلك من سلبيات كبيرة، وبين تعطيله الذي يعني تعطيل الوظيفة الإسلامية. وفي هذه الأثناء، أرسل آية الله البروجردي موفداً عنه إلى السيد الطباطبائي مع رسالة تحريرية يذكر فيها أن سماحته ـ أي السيد البروجردي ـ كان يدرِّس الأسفار في أصفهان مع زملاء خفية، وأن طرح مثل هذا الدرس بشكل علني أمر لا مصلحة فيه، وبعد قراءته للرسالة، أجاب السيد الطباطبائي عليها شفهياً للموفد، بأنه ليس عاجزاً عن تدريس الفقه والأصول، وأنه جاء من تبريز إلى قم لتصحيح ما تسرب إلى أذهان الطلبة ولمواجهة الماديين وغيرهم، وأن عصرنا الحاضر يختلف عن العصر الذي كانت تدرس فيه الأسفار بشكل خفي، إذ لم تكن آنذاك فلسفات مضادة توجب إقحام الحوزة في العلوم العقلية، وشفع هذه الإجابة برسالة تحريرية إلى آية الله البروجردي قال فيها: " إن مواصلتي لهذا الدرس نابعة من تشخيصي لمسؤولية شرعية لسدِّ نقص ضروري ألمسه داخل المجتمع الإسلامي، ولكنني في الوقت نفسه، ونظراً إلى أنني لا أجيز لنفسي مخالفة توصياتكم باعتباركم زعيم الحوزة وقائد المجتمع الشيعي، فإنني ألزمت نفسي بالطاعة لما تصدرونه من حكم، حتى لو أدّى ذلك إلى تعطيل الدرس، وإني سأعتمد حكمكم مبرراً لي أمام الله تعالى للتخلي عن هذه الوظيفة التي شخّصتها، أما إذا كان رأيكم غير هذا، فإنني سأواصل الدرس".
وإثر هذه الرسالة المفعمة بالأخلاق الرفيعة وروح المسؤولية، استجاب آية الله البروجردي لرغبته وأجازه بالاستمرار في درسه.
وفي جانب آخر، يؤكد العلاّمة في بحوثه نقطة مهمة، وهي أن الدين والعقل لا يفترقان، ويجب الرجوع إلى القرآن الكريم والوحي في الحالات التي تعجز فيها العقول عن التوصل إلى الحقائق، ولذلك كان من اهتماماته:
ـ الاهتمام بالقرآن الكريم وطرح تفسير جديد له يحرص على الأصالة ويتسم بالعصرية والعمق والاستيعاب في آن واحد، وبشكل يناسب مكانة القرآن الكريم كمصدر وحيد وخالد لهداية الإنسان في الفكر والسلوك، وهذا ما لحظه العلامة الطباطبائي في تفسيره "الميزان" الشهير، وقد تميز هذا التفسير بأنه يختزن قوة علمية متعمقة في البحث، مع السهولة واليسر والبعد عن التشدد، والتخفف من المذهبية الخاصة إلى حدٍّ بعيد، والرجوع إلى القرآن نفسه بتفسير بعضه ببعض، والنأي به عن الأقوال التي لا تصح من الروايات الكثيرة المختلفة، وعن الآراء التي ترجع إلى تأويل آياته حتى توافق نظراً علمياً، أو تقليداً مذهبياً، أو أصلاً كلامياً، أو فلسفة خاصة، أو تجديداً حديثاً.. إلى غير ذلك مما تلحظه بعض التفاسير القديمة والحديثة.
ومما قاله في بيان منهجه: "نفسر القرآن بالقرآن، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق، ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل:89]، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكل شيء، ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة:185] وقال تعالى: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} [النساء:174] وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه، وهو أشد الاحتياج؟ وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وأي جهاد أعظم من بذلك الجهد في فهم كتابه، وأي سبيل أهدى إليه من القرآن؟".
ومن أبرز مزايا هذا التفسير، أنه يعنى بعد شرح الآيات وبيان معناها، ببحث الموضوعات الهامة، والقضايا التي كثيراً ما شغلت الأذهان في القديم والحديث، بحثاً مستمداً من آيات القرآن نفسها،كما أنه بحث بحثاً جيداً في إعجاز القرآن من جهاته المختلفة، في بلاغته وقوة أسلوبه، وتحديه بالعلم، وبالإخبار عن الغيب، وبمن انزل عليه القرآن، وبعدم الاختلاف فيه.
ثم تحدَّث عمّا يثبته القرآن من قوانين وسنن كونية، كتصديقه لقانون العلية العامة، وإثباته ما يخرق العادة، ومن كون المؤثر الحقيقي في الأشياء بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه، ومن أن القرآن يعدُّ المعجزة برهاناً على صحّة الرسالة لا دليلاً عامياً، إلى غير ذلك من الجزئيات الهامة التي تضمنها هذا البحث الدقيق.
ـ صقل وتجذير الفلسفة الإسلامية وتمكينها من الوقوف على قدميها أمام تحديات الفكر الغربي، وذلك من خلال التأكيد على درس الفلسفة في الحوزة، وتربية عدد من العلماء، وتأليفه ما يزيد على العشرة كتب في الفلسفة والعقيدة، يأتي في مقدمتها كتابه "أصول الفلسفة" الذي وضعه في خمسة أجزاء طبعت مع تعليقات قيمة لتلميذه البارز الشهير آية الله مرتضى المطهري.
ـ التأليف، حيث قدّم العلامة الطباطبائي للمكتبة الإسلامية "35" رسالة وكتاباً ودورةً، كتفسير الميزان ذي العشرين جزءاً، وذلك في عدة مجالات من المعرفة الإسلامية، كالتفسير والفلسفة، والعقائد والتاريخ والحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والعرفان والثقافة الإسلامية العامة، إضافة إلى الرياضيات.
ـ إيصال الفكر الإسلامي الأصيل إلى أوروبا، كما في المحادثات التي أجراها سماحته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان، والتي بدأت سنة 1378هـ "1958"م"، وتواصلت أكثر من عشرين عاماً، وكانت اللقاءات تجري في طهران، وكان سماحته يسافر إليها من قم في الشهر مرتين، وبفضلها اقترب كوربان من المذهب الإمامي، ودوّن المحاورات ونشرها في بلاده كما نشر فكر التشيع، ووصل الأمر بهنري كوربان إلى أن يقرأ الصحيفة السجادية ويبكي.
ـ تخريج جيل من العلماء والأساتذة والمفكرين والكتاب الذين لعبوا أدواراً فكرية وسياسية رفيعة جداً، أمثال آية الله الشهيد المطهري وآية الله البهشتي، والإمام موسى الصدر، وآية الله ناصر مكارم الشيرازي، والشيخ الشهيد محمد مفتح، وآية الله السيد عبد الكريم الأردبيلي، والشيخ محمد تقي مصباح، وآية الله جوادي آملي، وآية الله حسن زاده آملي وآخرين.