وأمسكت شهقاتي مكظومة, لاقف وراءك, أتعلم كيف يكون الفعل حين لا يكون الوقت لائقا للبكاء.
وكيف يغرق الصدق في انهمار الدمعة الكذوب من عين الذي قتل وسلب, والذي انحاز للصمت, فجرت الدماء من تحت أنفه, ولم يحرك ساكنا ثم أتى, والرؤس على الحراب (يا أبا عبدالله) والخيام محروقة والحرائر الكريمات سبايا, ثم أتى ليبكي!..
حين سال النفاق دمعا و اختلط البكاء : سقطت معاني الشفقة, وأدركتها من فورك: ان هذا البكاء مريب. فرفضت يا زينب (سلام الله عليك) المواساة, ورأيت العداء في النحيب , كما رأيته في النبال الساقطة على عترة جدك المفدى (يا رسول الله), والسيوف الذابحة أهل بيته, وصوته الشريف لايزال يطوف بالضمائر: "اذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي"يجلل صوتك يا ابنة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) , صوتك الذي عرفته الليالي متبتلا خاشعا ذاكرا, يجلجل صوتك حاسما صارما :" صه يا أهل الكوفة! يقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم يا أهل الكوفة ..يا أهل الختل والغدر: أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة"
"ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.. أتبكون وتنتحبون ... أي والله.. فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا لقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل أبدا, وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة...""أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له أبرزتم, و أي دم له سفكتم وأي حرمة له انتهكتم"
ووراءك يازينب, كربلاء: كرب وبلاء: لتوك تركتها : مصاصة دم شريف
وآكلة أجساد عطرة " ثلاثة وسبعون شهيدا ثبتوا أمام أربعة آلاف حتى قتلوا عن آخرهم"استشهد الجميع بين ذراعيها وهي تقول " اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان".هطل الجور والعسف وغرور الدنيا على أرض كربلاء مطرا نجسا ترتوي منه بذور حقد جاهلية كان الاسلام قد دفنها طي سماحته حين كانت: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"
حمامة يطلقها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لترفرف بالرحمة فوق الثأر وفوق عدل القصاص.
وكان حتما ان يروى مطر الجور بذرة الحقد القديم فتينع: كربلاء...
وكربلاء بذرة كانت في صلب الاستهزاء الفظ بالنبي الكريم وتكذيبه وايذائه "بكرش البعير".
كربلاء كانت سطرا في حلف قريش الذي فرض حصار الجوع والعطش على العصبة المؤمنة في شعب أبي طالب.
وكربلاء كانت رنينا في صرخة أبي جهل:
" تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا و اعطوا فأعطينا, حتى اذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء, فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه"
وكربلاء كانت في نفر القبائل الذي اجتمع ليقتل محمد بن عبدالله الذي ظنوه نائما فاذا النائم علي بن أبي طالب (عليه السلام) المفتدي بروحه حياة نبيه ورسوله ومربيه ابن عمه وأخيه محمد الأمين.
وكربلاء كانت رمحا في قتلة الغدر بحمزة يوم أحد.
وكربلاء كانت دقات على دفوف النساء المشركات, يرقصن على جثث شهداء المسلين, يقطعن الآذان و الأنوف يعلقنها أقراطا و قلائد, ويبقرن البطون يمضغن الأكباد, وقائدهم أبو سفيان يقول للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه: "أعل هبل, الحرب سجال , يوم بيوم بدر: ويكاد يكررها حفيده يزيد بعده بنصف قرن, حين تسقط بين يديه رؤس الشهداء من احفاد النبي فيتغنى بأبيات من شعر الشماتة:
" ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا, و استهلوا فرحا ثم قالوا يايزيد لا تشل"
لكن الله أعلى و أجل. فيشاء سبحانه وتعالى أن يظل قول نبيه المبعوث رحمة للعالمين أمام عناد المشركين من قريش : " والله يا عم لووضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري, على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك من دونه".
يظل هذا القول راية يحملها "علي"(سلام الله عليه) ويستشهد تحتها ويحملها ابناؤه الحسن ثم الحسين وكوكبة من نجوم أهل البيت(سلام الله عليهم أجمعين) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, ومعهم صحابة أبرار من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا, و وراءهم- على طول الزمن الاسلامي ومن مشارق الأرض ومغاربها- تأتي قوافل من أبناء الاسلام: لا تنتهي ولا تنفد: بل تنمو وتربو كلما اشتد الحصار وسقط الشهداء
فلا يمكن للشهيد أن يحدد نسله, وقد جعله الله أكثر الرجال خصوبة , ولايزال الاسلام الولود يكثر أبناؤه على طريق دين الله, والراية النبوية تتبادلها الأيدي:
" والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
واللهم عجل ظهور المهدي واجعلنا من أنصاره وأتباعه