لم يكن لدفئ المخيم أن ينقص من فقر أهله و لم تكن الأنفة على وجوه أهله لتسمن من جوع أو تؤمن من خوف ... هكذا كان الحال في المخيم و ليس من جديد سو ى أنباء عن الثورة بين ساعة و أخرى تفرض شيء من الترقب و الخوف
كانت فتاة في السابعة عشرة من عمرها حين ساقها ضجر الصيف وعجزه إلى العمل خادمة في أحد البيوت المجاورة للمخيم و التي تمتلك من الطعام ما يمتلكه أهل المخيم مجتمعين
كانت هند تحلم بنجاحها في (البكلوريا) و دخول عالم الجامعة التي طالما تخيلته و تمنته , كان دخول هند إلى هذا البيت أشبه بالانتقال من عالم إلى أخر و لم تستطع بأحاسيسها الصغيرة و البريئة رسم أي شيء في مخيلتها عن ما تراه أو تشاهده , كان البيت مضمخا برائحة الليمون و الصنوبر فأصابها شيء من الغثيان حين دخل لرئتيها هواء معطر و نظيف للمرة الأولى بعيدا عن هواء المخيم المحمل برائحة الفحولة و الخيام المتهالكة
كانت فتاة بريئة يرتسم على محياها أثر الأشياء ببساطة و جمال لشدة نقائها و صفائها كأنها المرآة في عكسها للأشياء
كان صاحب البيت في الأربعين من عمره يلفه عطر غريب يشعرك و كأنه يكلمك من القمر ... كان دمثا في كلامه أنيق في ثيابه إلى درجة الإفراط , تجولت هند بين الأشياء بريبة و معظم ما كانت تراه لم يكن له أي معرفة مسبقة لديها و لم يكن قد تكون أي حدس معرفي عنه حتى باتت تتعامل مع الأشياء بقدسية الجهل و عبادة المجهول و ما زاد في عمق الهوة بين فهم الأشياء و عدمه هو صورة الرجل صاحب البيت حين تركت أناقته شيء في نفسها من الحيرة و الغرابة مقارنة مع رجال المخيم
لم تشعر هند إلا بقشعريرة تداعب أوصالها حين أعادة ذاكرتها صوت هذا الرجل الغريب الذي يشبه الخريف بالنسبة لها بكل شيء فقد كان لصوته قوة الخريف في تعرية الأشياء عندما عرى كثيرا من أحاسيسها التي كانت تحت سقف من اسمنت الشرق المسلح حين همس باسمها أول مرة
بدأت هند تعيش فصول انتقالية غريبة في حياتها بسرعة من التحولات بين الاخضرار و اليباس بين الأمنية و تحقيقها و هكذا تكون الفصول الانتقالية سريعة التحولات فتترك أثارها طويلا على الأشياء
مبهما كان شعورها فرحة مشوبة بالريبة و الخوف أشياء كانت داخلها تحس بها للمرة الأولى حنين لكل شيء , حالة من اللاشعور و الشعور اتجاه الأشياء و الأشخاص , و جدت هند نفسها أمام مجاهيل كثيرة تختبئ داخلها لم تستطع تفسير أي شيء , رغبة عارمة بالبكاء تفضي إلى الضحك و الحزن معا هكذا كانت ازدواجية الأشياء لديها مفاجئة لم تكن تتوقعها و بسرعة كبيرة و غريبة ظل هذا السديم و الضباب من المشاعر يلفها مثل قطرة ندى في صباح بارد , كان صوته في المرة الأخرى كفيلا في إعادتها إلى سابق عهدها عندما أمرها ناهرا أيها في المحافظة على النظافة أكثر من ما يجب