[size=مشدوداً بين قوس المتنبي ولوركا، عبر محمود درويش في الشعر العربي إلى حقولٍ شاسعة من زهر اللوز.
من سجّل أنا عربي إلى «لاعب النرد» قطعت قصيدة صاحب «لاتترك الحصان وحيداً» مسافة جمالية لم يطأها شاعر عربي معاصر بكل هذا الصهيل والدهشة, من شاعر القضية الفلسطينية إلى شاعرٍ كوني يختبر بصلابة مفردات الذات والعالم بمعجم لفظي لايأنس إلى يقينٍ نهائي. النبرة الهتافية التي غلّفت قصائده الأولى بالرنين العالي كانت مدماكاً لاكتشاف العشب بين الشقوق، إذ لم تتوقف هذه التجربة الاستثنائية عن مقاربة أسئلة جديدة تمتحن تحوّلات القصيدة وذهابها الطليق إلى مطارح بعيدة للتزود بالوقود البلاغية لقطار يزدحم بالحشود. قدر محمود درويش أن يوثّق المأساة الفلسطينية بكل نكباتها وهزائمها وانتصاراتها، فشاعر القبيلة الذي أرادوه أن يكون ناطقاً باسمها،كان يتململ على الدوام من هذه المهمة،وإذا به يحوّل فلسطين إلى أسطورة، وجدارية لمقاومة النسيان. من منفى إلى آخر حمل صاحب”ورد أقلّ” رائحة بلاده المنهوبة إلى كل جغرافيات العالم، ثم التفت أخيراً إلى نصه الشخصي المؤجل. خارج كل شُبهات الشهرة التي لحقت بالشاعر، وخارج جماهيريته، ظلّ محمود درويش حريصاً وصارماً تجاه قصيدته، فكم مرّةً نظفها من شوائب «السماع»، لينصت إلى خرير دمه، وتوق أشواقه، وتشظي ذاته المكلومة. كان بإمكانه أن يستمر في الهتاف إلى آخر نقطةٍ في الديوان الأخير، لكنه أدار ظهره للمديح العالي، ليلتفت إلى أنين روحه، متخففاً من كل ما يثقلها من وزر الآخرين، ففلسطين ذريعة شعره الأولى، وذريعة سواه، تقترب أكثر حين يفصح هذا الشعر عن بعدٍ إنساني وجمالي صرف، ومكابدات كائن يتألم من الحب والمرض والوحشة والنفي. كان «سرير الغريبة» المغامرة الفعلية الأولى في كتابة قصيدة مفارقة ومغايرة للمعتاد والمدهش بآنٍ واحد. فجأة بحث القارئ الكسول عمّا يغذّي استرخاءه وثوريته النائمة التي تخرج من بنادق الآخرين، فلم يجدها. ارتبك أمام الأيائل وأقواس الكمنجات المشدودة الأوتار إلى ماليس هتافاً وشعارات، وإنما شعر ملتبس وغامض يحتشد بالأساطير والوقت السرّي للعشق والذات. في الواقع كان محمود درويش يطوّر قصيدته على مهل، ففي أقصى حالات الهتاف، كان يدسُّ نصاً ذاتياً، هو حصته من وليمة الآخرين، إلى أن أعلن قطيعته الكاملة مع ما يطلبه المستمعون، فكانت «جدارية» التي صدمت الذائقة المستقرة من فرط تشعب مياهها وأوديتها وبحورها. جدارية أقرب إلى ما كان ينسجه شعراء المعلّقات كي تبقى عابرة للأزمنة والأجيال. كونشيرتو عن الألم والمرض والموت، ورحلة هوميرية في المصائر والأقدار، كما توجه في «كزهر اللوز أو أبعد» إلى الغائب والمنسي وما يتفتّح في الظل، و سوف يتوغّل في مناطق نائية، في إحدى قصائده الأخيرة «لاعب النرد»، ليشبه ذاته أكثر، ويرسم دربه إلى عشب القصيدة، وذلك وفقاً لما يقوله فخري صالح «بتوليف عناصر من عيشه الشخصي مع عناصر من التاريخ الفلسطيني الجماعي ، والحكايات والأساطير ، للتعبير عن الإحساس العميق بالمنفى الجماعي
">والشخصي». [/size]...........منقول